مواضيع مماثلة
بحـث
المواضيع الأخيرة
فاطمة الزهراء(عليها السلام) تندب أباها
صفحة 1 من اصل 1
فاطمة الزهراء(عليها السلام) تندب أباها
اللهم صل على محمدوال محمد وعجل فرجهم والعن اعدائهم
من مقالة لسماحة اية الله محمد تقي المدرسي
حول بكاء السيدة الزهراء لفقد اباها المصطفى صلى الله عليه واله سلم
خلاصة :
لــم تكن علاقة فاطمة بأبيها كأيَّة بنت بوالدها ، بل إنها أضحت امتداداً لجميع أبعاد شخصية رسول اللــه ، أولم يقل عنها النبي (صلى الله عليه وآله) وهو آخذ بيدها : (من عرف هذه فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد ، وهي بضعة مني ، وهي قلبي الذي بين جنبيّ فمن آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللـه) [1].
نص المقال :
أولم يحدثنا علي(عليه السلام) عن فاطمة(عليها السلام) انها قالت : ( قال لي رسول اللـه : يا فاطمة من صلَّى عليك غفر اللـه له وألحقه بي حيث كنت من الجنة ) [1][2].
وحب فاطمة لأبيها كان أسمى من حب النسب . بل كان حبّاً إلهيّاً نابعاً من معرفتها بمقام الرسول من اللـه ، وعظمته عند ربه . وحين افتقدت فاطمة رسول اللـه أحست بخطورة الموقف كما لم يشعر بذلك أحد ، وشعرت وكأنَّ جبال الأرض تداكَّت على رأسها الشريف . وبالرغم من أن الحزن قد دب إلى كل قلب مؤمن بفقد الرسول ، وإلى قلب الأمة ، وضمير الحياة ، إلاّ أن شلال الحزن صب في فؤاد ابنته ووريثته الوحيدة ، وقلبه المنفصل !! ولقد أذهل المصاب الجلل الكثير عن التفكر الجدِّي في إملاء الفراغ الكبير بإحياء ذكرى الرسول. وكان على فاطمة أن تملأ هذا الفراغ بذكر رسول اللـه ، وبيان عظمته ، والصلاة عليه ، وإعلان شديد الحزن عليه . و . و.
إن فاطمة كانت تتعبدلله بالكباء على فقد رسول اللـه (صلى اللـه عليه وآله) . لأن ذلك كان يحيي ذكر الرسول . وقد بلغ بكاء الزهراء على والدها حداً عُدّت من البكائين الخمسة إلى جنب آدم ويعقوب ويوسف(عليهم السلام)، ثم علي بن الحسين (عليه السلام) [1][3].
وجاء في حديث مروي عن فضة التي لازمت خدمة فاطمة الزهراء ، قصة حزن فاطمة ، الحديث يقول :
ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب ، والأقرباء والأحباب ، أشدَّ حزناً وأعظم بكاءً وانتحاباً ( على رسول اللـه ) من مولاتي فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، وكان حزنها يتجدَّد ويزيد ، وبكاؤها يشتدُّ .
فجلست سبعة أيام لا يهدأ لها أنين ، ولا يسكن منها الحنين ، كلُّ يوم جاء كان بكاؤها أكثر من اليوم الأوَّل ، فلما كان في اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن ، فلم تطق صباراً إذ خرجت وصرخت ، فكأنها من فم رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله تنطق ، فتبادرت النسوان ، وخرجت الولائد والولدان ، وضجَّ الناس بالبكاء والنحيب وجاء الناس من كلِّ مكان ، وأطفئت المصابيح لكيلا تتبيّن صفحات النساء وخُيِّل إلى النسوان أنّ رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله قد قام من قبه ، وصارت الناس في دهشة وحيرة لما قد رهقهم ، وهي (عليها السلام) تنادي وتندب أباها : وا أبتاه ، وا صفيّاه ، وا محمّداه ! وا أبا القاسماه ، وا ربيع الارامل واليتامى ، من للقبلة والمصلَّى ، ومن لابنتك الوالهة الثكلى .
ثم أقبلت تعثر في أذيالها ، وهي لا تبصر شيئاً من عبرتها ، ومن تواتر دمعتها حتى دنت من قبر أبيها محمد صلى الله عليه وآله ، فلما نظرت إلى الحجرة وقع طرفها على المأذنة فقصرت خطاها ، ودام نحيبها وبكاها ، إلى أن أغمي عليها ، فتبادرت النسوان إليها فنضحن الماء عليها وعلى صدرها وجبينها حتى أفاقت ، فلما أفاقت من غشيتها قامت وهي تقول : ( رفعت قوتي ، وخانني جلدي ، وشمت بي عدوّي ، والكمد قاتلي ، يا أبتاه بقيت والهة وحيدة ، وحيرانه فريدة ، فقد انْخَمَد صوتي ، وانْقَطَع ظهري ، وتنغص عيشي ، وتكدَّر دهري ، فما أجد يا ابتاه بعدك أنيساً لوحشتي ، ولا راداً لدمعتي ، ولا معيناً لضعفي ، فقد فني بعدك محكم التنزيل ، ومهبط جبرائيل ، ومحلُّ ميكائيل . انقلبت بعـــدك يــا أبتـــاه الأسباب ، وتغلّقت دوني الأبواب ، فأنا للدُّنيا بعدك قاليـة ، وعليك ما تردَّدت أنفاسي باكية ، لا ينفد شوقي إليك ، ولا حزني عليك ) .
ثم نادت : يا أبتاه والبّاه ، ثم قالت :
إن حزني عليك حزن جديد وفؤادي والله صبُّ عنيدُ
كل يوم يزيد شجوني واكتئابي عليك ليس يبيدُ
جلّ خطبي فبان عنّي عزائي فبكائي في كل وقت جديدً
إن قلباً عليك يألف صبراً أوعزاءً، فإنه لجليدُ
ثم نادت : يا أبتاه ، انقطعت بك الدنيـــــا بأنوارها ، وزوت زهرتها وكانت ببهجتك زاهرة ، فقد اسودَّ نهارهـا ، فصار يحكي حنادسها ويابسها ، يا أبتاه لازلت آسفة عليك إلى التلاق ، يا ابتاه زال غمضي منذ حقَّ الفراق ، يا أبتاه من للأرامل والمساكين ، ومن للأمة إلى يوم الدين ، يا أبتاه أمسينا بعدك من المستضعفيـن ، يا ابتاه أصبحت الناس عنّا معرضين ، ولقد كنا بك معظّمين في الناس غير مستضعفين ، فأيُّ دمعةٍ لفراقك لا تنهمل ، وأيُّ حزن بعدك عليك لا يتَّصل ، وأيُّ جفن بعدك بالنوم يكتحل ، وأنت ربيع الدِّين ، ونور النبيين ، فكيف للجبال لا تمور ، وللبحار بعدك لاتغور ، والأرض كيف لم تتزلزل .
رُميتُ يا أبتاه بالخطب الجليل ، ولم تكن الرّزية بالقليل ، وطرفت يا أبتاه بالمصاب العظيم ، وبالفادح المهول . بكتك يا أبتاه الأملاك ، ووقفت الأفلاك ، فمنبرك بعدك مستوحش ، ومحرابك خال من مناجاتك ، وقبرك فرح بمواراتك ، والجنّة مشتاقة إليك وإلى دعائك وصلاتك . يا أبتاه ما أعظم ظلمة مجالسك ، فوا أسفاه عليك إلى أن أقدم عاجلاً عليك ، واُثكْلَ أبي الحسن المؤتمن أبي ولديك ، الحسن والحسين ، وأخيك ووليّك وحبيبك ومن ربّيته صغيراً ، وواخيته كبيراً ، وأحلى أحبابك وأصحابك إليك من كان منهم سابقاً ومهاجراً وناصراً ، والثكل شاملنا ، والبكاء قاتلنا ، والأسى لازمنا .
ثم زفرت زفرة وأنّت أنّه كادت روحها أن تخرج ثمَّ قالت :
قلّ صبري وبان عني عزائي بعد فقدي لخاتم الأنبياء
عين يا عين فاسكبي الدمع سحاً وبك لا تبخلي بفيض الدماء
يا رسول الإله يا خيرة الله وكهف الأيتام والضعفاء
قد بكتك الجبال والوحوشُ جمعاً فبكت الارض من بكاء السماء
وبكاء الحجون والركن والمشعر يا سيدي مع البطحاء
وبكاك المحراب والدرس للقرآن في الصبح ومعلناً والسماء
وبكاك الإسلام إذ صار في الناس غريباً من سائر الغرباء
لو ترى المنبر الذي كنت تعلوهُ علاه الظلام بعد الضياء
يا إلهي عجل وفاتي سريعاً فلقد نقص الحياة بكائي
قالت : ثمَّ رجعـــت إلى منزلها وأخذت بالبكاء والعويل ليلها ونهارها ، وهي لاترقأ دمعتها ، ولا تهدأ زفرتهــا . واجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقالوا له : يا أبا الحسن إنَّ فاطمة (عليها السلام) تبكي الليل والنهار ، فلا أحد منّا يتهنأ بالنوم في الليل على فُرشنا ، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا . وإنّا نخبرك أن تسألها إمّا أن تبكي ليلاً او نهاراً ، فقال (عليه السلام) : حُبّاً وكرامةً . فأقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى دخل على فاطمة (عليها السلام) وهي لاتفيق من البكاء ، ولا ينفع فيها العزاء . فلما رأته سكنت هنيئة له ، فقال لها : يا بنت رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) ، إنَّ شيوخ المدينة يسألوني أن أسألك إما أن تبكين أباك ليلاً وإمّا نهاراً . فقالت : يا أبا الحسن ما أقلَّ مكثي بينهم ، وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم ، فواللـه لا أسكت ليلاً ولا نهاراً أو ألحق بأبي رسول اللـه (صلى الله عليه وآله). فقال لها علي(عليه السلام): افعلي يا بنت رسول اللـه ما بدا لك .
ثمَّ إنه بنى لها بيتاً في البقيع نازحاً عن المدينة يسمى بيت الأحزان ، وكانت إذا أصبحت قدَّمت الحسن والحسين (عليهما السلام) أمامها ، وخرجت إلى البقيع باكية . [1][4]
وكانت فاطمة الزهراء تستغل بعض المناسبات لتعريف الناس برسول اللـه ، وتجديد ذكراه العطرة . فلقد روي [ أنّه ] لما قبض النبي (صلى الله عليه وآله) امتنع بلال من الأذان ، قال : لا أؤذن لأحد بعد رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) ، وإن فاطمة (عليها السلام) قالت ذات يوم : إني أشتهي أن أسمع صوت مؤذِّن أبي (صلى الله عليه وآله) بالأذان ، فبلغ ذلك بلالاً ، فأخذ في الأذان ، فلمّا قال : اللـه أكبر اللـه أكبر ، ذكرت أباها وأيامه ، فلم تتمالك من البكاء ، فلما بلغ إلى قوله : اشهد أن محمداً رسول اللـه شهقت فاطمة (عليها السلام) وسقطت لوجهها وغشي عليها ، فقال الناس لبلال : أمسك يا بلال فقد فارقت أبنة رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) الدُّنيا ، وظنوا أنها قد ماتت ، فقطع أذانه ولم يتمه فأفاقت فاطمة (عليها السلام) وسألته أن يتمَّ الأذان ، فلم يفعل ، وقال لها : يا سيدة النسوان إنّي أخشى عليك ممّا تنزلينه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان ، فأعفته عن ذلك .
الصدِّيقة (عليها السلام)تلتحق بوالدها (صلى الله عليه وآله) :
كان النبي (صلى الله عليه وآله) يتقلب على فراش المنيّة ، وكانت فاطمة تجلس بجانبه فيسارُّها النبي فتبكي ، ثم يسارُّها ثانية فيتهلل وجهها الكريم . وحين تُسأل عن السر الأول تقول : إنه أسر إليها بأن جبرائيل كان يعرض عليه القرآن كل عام مرة واحدة . فعرض عليه هذا العام مرتين ، وما ذلك إلاّ لاقتراب أجله ..
أما السر الثاني فإنها ستكون أول من تلتحق به ..
وهكذا ، ظلت فاطمة تعزي نفسها رغم شدة الظروف المحيطة بها ، بأنها ستكون أول من يلتحق برسول اللـه (صلى الله عليه وآله).
أمـا الظروف التي عاشتها فاطمة (عليها السلام) بعد وفاة الرسول ، فكانت صعبة جدّاً ، لأنها وقفت وحدها تتحدى العواصف العاتية . وحتى الإمام علي بطل الإسلام الأول لم يكن من الحكمة أن يشاطرها الجهاد ، فكان عليها أن تتصدَّى لذلك وحدها ، وهي امرأة لما تبلغ العشرين ربيعاً .. ولكل تلك الظروف يكفينا أن نستمع إليها وهي مفجوعة تشكو إلى علي (عليه السلام) حالها بكلمات تتقطر ألماً وتحدياً : لما انصرفت فاطمة من عند أبي بكر أقبلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقالت له : ( يابن أبي طالب شملت شيمة الجنين ، وقعدت حجرة الظنين ، فنقضت قادمة الأجدل ، فخانك ريش الأعزل . أضرعت خدَّك يوم وضعت جدك ، افترست الذئاب وافترشت التراب ، ما كففت قائلا ، ولا أغنيت باطلاً هذا ابن أبي قحافة يبتزُّني نحيلة أبي ، وبليغة ابنيّ ، واللـه لقد أجهر في خصامي ، وألفيته ألدَّ في كلامــــي ، حتى منعتني القيلة نصرها والمهاجرة وصلها ، وغضّت الجماعة دوني طرفها ، فلا دافع ولا مانع ، خرجت كاظمة ، وعدت راغمة ، ولا خيار لي ، ليتني متُّ قبل هينتي ، ودون زلّتي ، عذيري اللـه منك عادياً ، ومنك حاميا ، ويلاي في كلِّ شارق ، ويلاي مات العمد ووهنت العضد ، وشكواي إلى أبي ، وعدواي إلى ربي . اللـهمَّ أنت أشدُّ قوَّة ، فأجابها أمير المؤمنين : لا ويل لك ، الويل لشانئك ، نهنهي عن وجدك يــا بُنية الصفوة ، وبقية النبوَّة ، فما ونيت عن ديني ، ولا أخطأت مقدوري ، فإن كنت تريدين البلغة ، فرزقك مضمون ، وكفيلك مأمون ، وما أعدَّ لك خير ممّا قطع فاحتسبي اللـه . فقالت حسبى اللـه ونعم الوكيل ) [1][5]. وحان ميعاد اللقاء ، واستعدت الصديقة للقاء اللـه والالتحاق برسول اللـه ، وكان لذلك قصة تروى فلقد مرضت فاطمة (عليها السلام) مرضاً شديداً ومكثت أربعين ليلة في مرضها ، إلى أن توفيت صلوات اللـه عليها . فلما نعيت إليها نفسها دعت أمَّ أيمن واسماء بنت عميس ووجّهت خلف عليّ وأحضرته ، فقالت : ابن عمِّ إنّه قد نعيت إليَّ نفسي وإنني لا ارى ما بي إلا أنني لاحقةٌ بأبي ساعة بعد ساعة وأنا أوصيك بأشياء في قلبي . ( قال لها علي (عليه السلام) : أوصيني بما أحببت يا بنت رسول اللـه ! فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت ثمَّ قالت : يابن عمِّ ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ، ولا خالفتك منذ عاشرتني . فقال (عليه السلام) : معاذ اللـه أنتِ أعلم باللـه ، وأبرُّ وأتقى وأكرم وأشدُّ خوفاً من اللـه [ من ] أن أوبّخك بمخالفتي قد عزَّ عليَّ مفارقتك وتفقدك ، إلاّ أنه امر لابدَّ منه ، واللـه جدّدت عليَّ مصيبة رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) ، وقد عظمت وفاتك وفقدك ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضها وأحزنها . هذه واللـه مصيبة لا عزاء لها ، ورزيّة لا خلف لها .
ثم بكيا جميعاً ساعة ، وأخذ عليٌّ رأسها وضمّه إلى صدره ثمَّ قال : أوصيني بما شئت ، فإنّك تجدينني فيها أمضي كما أمرتني به ، وأختار أمرك على أمري . ثمَّ قالـــت : جزاك اللـه عنّي خير الجزاء يابن عمِّ رسول اللـه ، أوصيك أوَّلاً أن تتزوّج بعدي بأبنة [ أختــــي ] أمامة ، فإنها تكون لولدي مثلي ، فإنَّ الرِّجال لابدَّ لهم من النساء . ثمَّ قالت : أوصيك يابن عمِّ أن تتخذ لي نعشاً ، فقد رأيت الملائكة صوّروا صورته ، فقال لها : صفيه لي فوصفته فاتّخذه لها . فأوَّل نعش عُمل على وجه الأرض ذاك .
ثمَّ قالت : أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني وأخذوا حقّي فإنّهم عدوَّي وعدوُّ رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) ، ولا تترك أن يصلّي عليَّ أحد منهم ، ولا من أتباعهم ، وادفنّي في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار ، ثمَّ توفّيت صلوات اللـه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها .
فصاح أهل المدينة صيحة واحدة واجتمعت نساء بني هاشم في دارها ، فصرخوا صرخة واحدة كادت المدينة أن تتزعزع من صراخهنَّ وهنَّ يقلن : يا سيدتاه !. يا بنت رسول اللـه !. وأقبل الناس مثل عُرف الفرس إلى عليٍّ (عليه السلام) ، وهو جالس والحسن والحسين (عليهما السلام) بين يديه يبكيان ، فبكى الناس لبكائهما . وخرجت أمُ كلثوم وعليها برقعة وتجرُّ ذيلها متجلّلة برداء عليها وقد علا نشيجها وهي تقول : يا أبتاه ، يا رسول اللـه ، الآن حقّاً فقدناك ، فقداً لا لقاء بعده أبداً .
واجتمع الناس فجلسوا وهم يضجون ، وينتظرون أن تخرج الجنازة فيصلون عليها ، وخرج أبو ذرّ وقال : انصرفوا فإنَّ ابنة رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) قد أخّر إخراجها في هذه العشية فقام الناس وانصرفوا .
فلمّا أن هدأت العيون ومضى شطر من الليل أخرجها عليٌّ والحسن والحسين (عليهما السلام) ، وعمّار والمقداد وعقيـــل والزبير وأبو ذرّ وسلمان وبريدة ونفر من بني هاشم وخواصهم ، صلّوا عليها ودفنوها في جوف الليــــل ، وسوَّى عليٌّ (عليه السلام) حواليها قبوراً مزوَّرة مقدار سبعة حتى لايعرف قبرها . وقال بعضهم من الخواصِّ : قبرها سُوِّي مع الأرض مستوياً فَمُسِحَ مسحاً سواء مع الأرض حتى لايُعرف موضعه [1][6] . ثم إن عليّاً (عليه السلام) حوّل وجهه إلى قبر رسول اللـه ثم قال : ( السلام عليك يا رسول اللـه عنّي ! . والسلام عليك عن أبنتك ، وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك ، والمختار اللـه لها سرعة اللّحاق بك . قَلَّ يا رسول اللـه عن صفيّتك صبري ، وعفا عن سيدة نساء العالميــــن تجلّدي ، إلاّ أنَّ فـي التأسّي لي بسنّتك في فرقتك ، موضع تعزٍّ ، فلقد وسّدتك في ملحــــودة قبرك ، وفاضت نفسك بين نحري وصدري .
بلى !. وفي كتاب اللـه لي أنعم القبول ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون . قد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرّهينة ، أخْلست الزَّهراء ، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول اللـه !. أمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهّد ، وهمٌّ لايبرح من قلبي ، أو يختار اللـه لي دارك التي أنت فيها مقيم ، كمد مقيِّح ، وهمٌّ مهيَّج ، سرعان ما فُرِّق بيننا . وإلى اللـه أشكو . وستنبئــــك ابنتُك بتضافر أُمَّتك على هضمها ، فأَحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلـــج بصدرها ، لم تجد إلى بثّه سبيلاً ، وستقول ويحكم اللـه وهو خير الحاكمين ) [1][7] .
وظلت فاطمة الزهراء شعلة الحب التي لاتخبو في صدور المؤمنين ، وراية الكفاح التي لاتسقط عن يد الرساليين ، وقبسة الخلق الرفيع ، وظُلامة الحق التي تصبغ صفحات الشفق بلون الدم الموتور ، والحق المغدور ، فتتحول نبضة ثورية في عروق فتيان المروة ، يتزودون بها عبر مسيرتهم الجهادية ضد المتسلطين والانتهازيين والقشريين ..
وما أحوج أمتنا اليوم إلى تجديد ذكرى فاطمة ، ليقتدي بها النساء ، بل الرجال أولاً ..
ولنصلي عليها . وعلى أبيها ، وعلى بعلها وبنيها ، كما صلّى اللـه عليها ، وملائكته . والمؤمنون ..
ولقد بلغ من التزامها بتطبيق الإسلام على نفسها تطبيقاً حرفيّاً ، ما روي من أنّـه لما نزلت الآية المباركة : { لاَ تَجْعَلُوا دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً } (النُّور/63)
صار اللازم على المسلمين أن يغيروا خطابهم مع الرسول ، من قولهم : يا محمد !! إلى قولهم يا رســـول اللـه . الكلمــة التي شاعت بعد نـــزول هذه الآيـــة باعتبار ذكـــر الرســـول في الآيـــة ، تعبيراً عن النبــي - محمد - .
وكان هذا الدستور مختصاً بالذين كانوا يستخفون باسم النبي ويدعونه باسمه المدعى به ، دون أي احترام . ولكنَّ فاطمة ، لما سمعت نزول هذه الآية ، غيّرت أيضاً طريقة خطابها مع النبي (صلى الله عليه وآله) فبينما كانت تقول لوالدها : يا أبتاه !! أضحت تناديه بقولها : يا رسول اللـه . فلما سمع النبي منها ذلك. تساءل عن وجه ذلك . فقالت : إطاعة لحكم اللـه. فقال النبي: إني أحبّ من فمك كلمة “ يا أبتاه “.
ــــــــــــــــــــ
([1]) بحار الأنوار : ج 43 ، ص 80 .
([2]) بحار الأنوار : ج 43 ، ص 55 .
([3]) بحار الأنوار : ج 43 ، ص 155 .
([4]) بحار الأنوار : ج 43 ، ص 175 - 177 .
([5]) بحار الأنوار : ج 43 ، ص 148 .
([6]) بحار الأنوار : ج 43 ، ص 191 - 193 .
([7]) بحار الأنوار : ج 43 ، ص 193 .
[b]
من مقالة لسماحة اية الله محمد تقي المدرسي
حول بكاء السيدة الزهراء لفقد اباها المصطفى صلى الله عليه واله سلم
خلاصة :
لــم تكن علاقة فاطمة بأبيها كأيَّة بنت بوالدها ، بل إنها أضحت امتداداً لجميع أبعاد شخصية رسول اللــه ، أولم يقل عنها النبي (صلى الله عليه وآله) وهو آخذ بيدها : (من عرف هذه فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد ، وهي بضعة مني ، وهي قلبي الذي بين جنبيّ فمن آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللـه) [1].
نص المقال :
أولم يحدثنا علي(عليه السلام) عن فاطمة(عليها السلام) انها قالت : ( قال لي رسول اللـه : يا فاطمة من صلَّى عليك غفر اللـه له وألحقه بي حيث كنت من الجنة ) [1][2].
وحب فاطمة لأبيها كان أسمى من حب النسب . بل كان حبّاً إلهيّاً نابعاً من معرفتها بمقام الرسول من اللـه ، وعظمته عند ربه . وحين افتقدت فاطمة رسول اللـه أحست بخطورة الموقف كما لم يشعر بذلك أحد ، وشعرت وكأنَّ جبال الأرض تداكَّت على رأسها الشريف . وبالرغم من أن الحزن قد دب إلى كل قلب مؤمن بفقد الرسول ، وإلى قلب الأمة ، وضمير الحياة ، إلاّ أن شلال الحزن صب في فؤاد ابنته ووريثته الوحيدة ، وقلبه المنفصل !! ولقد أذهل المصاب الجلل الكثير عن التفكر الجدِّي في إملاء الفراغ الكبير بإحياء ذكرى الرسول. وكان على فاطمة أن تملأ هذا الفراغ بذكر رسول اللـه ، وبيان عظمته ، والصلاة عليه ، وإعلان شديد الحزن عليه . و . و.
إن فاطمة كانت تتعبدلله بالكباء على فقد رسول اللـه (صلى اللـه عليه وآله) . لأن ذلك كان يحيي ذكر الرسول . وقد بلغ بكاء الزهراء على والدها حداً عُدّت من البكائين الخمسة إلى جنب آدم ويعقوب ويوسف(عليهم السلام)، ثم علي بن الحسين (عليه السلام) [1][3].
وجاء في حديث مروي عن فضة التي لازمت خدمة فاطمة الزهراء ، قصة حزن فاطمة ، الحديث يقول :
ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب ، والأقرباء والأحباب ، أشدَّ حزناً وأعظم بكاءً وانتحاباً ( على رسول اللـه ) من مولاتي فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، وكان حزنها يتجدَّد ويزيد ، وبكاؤها يشتدُّ .
فجلست سبعة أيام لا يهدأ لها أنين ، ولا يسكن منها الحنين ، كلُّ يوم جاء كان بكاؤها أكثر من اليوم الأوَّل ، فلما كان في اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن ، فلم تطق صباراً إذ خرجت وصرخت ، فكأنها من فم رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله تنطق ، فتبادرت النسوان ، وخرجت الولائد والولدان ، وضجَّ الناس بالبكاء والنحيب وجاء الناس من كلِّ مكان ، وأطفئت المصابيح لكيلا تتبيّن صفحات النساء وخُيِّل إلى النسوان أنّ رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله قد قام من قبه ، وصارت الناس في دهشة وحيرة لما قد رهقهم ، وهي (عليها السلام) تنادي وتندب أباها : وا أبتاه ، وا صفيّاه ، وا محمّداه ! وا أبا القاسماه ، وا ربيع الارامل واليتامى ، من للقبلة والمصلَّى ، ومن لابنتك الوالهة الثكلى .
ثم أقبلت تعثر في أذيالها ، وهي لا تبصر شيئاً من عبرتها ، ومن تواتر دمعتها حتى دنت من قبر أبيها محمد صلى الله عليه وآله ، فلما نظرت إلى الحجرة وقع طرفها على المأذنة فقصرت خطاها ، ودام نحيبها وبكاها ، إلى أن أغمي عليها ، فتبادرت النسوان إليها فنضحن الماء عليها وعلى صدرها وجبينها حتى أفاقت ، فلما أفاقت من غشيتها قامت وهي تقول : ( رفعت قوتي ، وخانني جلدي ، وشمت بي عدوّي ، والكمد قاتلي ، يا أبتاه بقيت والهة وحيدة ، وحيرانه فريدة ، فقد انْخَمَد صوتي ، وانْقَطَع ظهري ، وتنغص عيشي ، وتكدَّر دهري ، فما أجد يا ابتاه بعدك أنيساً لوحشتي ، ولا راداً لدمعتي ، ولا معيناً لضعفي ، فقد فني بعدك محكم التنزيل ، ومهبط جبرائيل ، ومحلُّ ميكائيل . انقلبت بعـــدك يــا أبتـــاه الأسباب ، وتغلّقت دوني الأبواب ، فأنا للدُّنيا بعدك قاليـة ، وعليك ما تردَّدت أنفاسي باكية ، لا ينفد شوقي إليك ، ولا حزني عليك ) .
ثم نادت : يا أبتاه والبّاه ، ثم قالت :
إن حزني عليك حزن جديد وفؤادي والله صبُّ عنيدُ
كل يوم يزيد شجوني واكتئابي عليك ليس يبيدُ
جلّ خطبي فبان عنّي عزائي فبكائي في كل وقت جديدً
إن قلباً عليك يألف صبراً أوعزاءً، فإنه لجليدُ
ثم نادت : يا أبتاه ، انقطعت بك الدنيـــــا بأنوارها ، وزوت زهرتها وكانت ببهجتك زاهرة ، فقد اسودَّ نهارهـا ، فصار يحكي حنادسها ويابسها ، يا أبتاه لازلت آسفة عليك إلى التلاق ، يا ابتاه زال غمضي منذ حقَّ الفراق ، يا أبتاه من للأرامل والمساكين ، ومن للأمة إلى يوم الدين ، يا أبتاه أمسينا بعدك من المستضعفيـن ، يا ابتاه أصبحت الناس عنّا معرضين ، ولقد كنا بك معظّمين في الناس غير مستضعفين ، فأيُّ دمعةٍ لفراقك لا تنهمل ، وأيُّ حزن بعدك عليك لا يتَّصل ، وأيُّ جفن بعدك بالنوم يكتحل ، وأنت ربيع الدِّين ، ونور النبيين ، فكيف للجبال لا تمور ، وللبحار بعدك لاتغور ، والأرض كيف لم تتزلزل .
رُميتُ يا أبتاه بالخطب الجليل ، ولم تكن الرّزية بالقليل ، وطرفت يا أبتاه بالمصاب العظيم ، وبالفادح المهول . بكتك يا أبتاه الأملاك ، ووقفت الأفلاك ، فمنبرك بعدك مستوحش ، ومحرابك خال من مناجاتك ، وقبرك فرح بمواراتك ، والجنّة مشتاقة إليك وإلى دعائك وصلاتك . يا أبتاه ما أعظم ظلمة مجالسك ، فوا أسفاه عليك إلى أن أقدم عاجلاً عليك ، واُثكْلَ أبي الحسن المؤتمن أبي ولديك ، الحسن والحسين ، وأخيك ووليّك وحبيبك ومن ربّيته صغيراً ، وواخيته كبيراً ، وأحلى أحبابك وأصحابك إليك من كان منهم سابقاً ومهاجراً وناصراً ، والثكل شاملنا ، والبكاء قاتلنا ، والأسى لازمنا .
ثم زفرت زفرة وأنّت أنّه كادت روحها أن تخرج ثمَّ قالت :
قلّ صبري وبان عني عزائي بعد فقدي لخاتم الأنبياء
عين يا عين فاسكبي الدمع سحاً وبك لا تبخلي بفيض الدماء
يا رسول الإله يا خيرة الله وكهف الأيتام والضعفاء
قد بكتك الجبال والوحوشُ جمعاً فبكت الارض من بكاء السماء
وبكاء الحجون والركن والمشعر يا سيدي مع البطحاء
وبكاك المحراب والدرس للقرآن في الصبح ومعلناً والسماء
وبكاك الإسلام إذ صار في الناس غريباً من سائر الغرباء
لو ترى المنبر الذي كنت تعلوهُ علاه الظلام بعد الضياء
يا إلهي عجل وفاتي سريعاً فلقد نقص الحياة بكائي
قالت : ثمَّ رجعـــت إلى منزلها وأخذت بالبكاء والعويل ليلها ونهارها ، وهي لاترقأ دمعتها ، ولا تهدأ زفرتهــا . واجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقالوا له : يا أبا الحسن إنَّ فاطمة (عليها السلام) تبكي الليل والنهار ، فلا أحد منّا يتهنأ بالنوم في الليل على فُرشنا ، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا . وإنّا نخبرك أن تسألها إمّا أن تبكي ليلاً او نهاراً ، فقال (عليه السلام) : حُبّاً وكرامةً . فأقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى دخل على فاطمة (عليها السلام) وهي لاتفيق من البكاء ، ولا ينفع فيها العزاء . فلما رأته سكنت هنيئة له ، فقال لها : يا بنت رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) ، إنَّ شيوخ المدينة يسألوني أن أسألك إما أن تبكين أباك ليلاً وإمّا نهاراً . فقالت : يا أبا الحسن ما أقلَّ مكثي بينهم ، وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم ، فواللـه لا أسكت ليلاً ولا نهاراً أو ألحق بأبي رسول اللـه (صلى الله عليه وآله). فقال لها علي(عليه السلام): افعلي يا بنت رسول اللـه ما بدا لك .
ثمَّ إنه بنى لها بيتاً في البقيع نازحاً عن المدينة يسمى بيت الأحزان ، وكانت إذا أصبحت قدَّمت الحسن والحسين (عليهما السلام) أمامها ، وخرجت إلى البقيع باكية . [1][4]
وكانت فاطمة الزهراء تستغل بعض المناسبات لتعريف الناس برسول اللـه ، وتجديد ذكراه العطرة . فلقد روي [ أنّه ] لما قبض النبي (صلى الله عليه وآله) امتنع بلال من الأذان ، قال : لا أؤذن لأحد بعد رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) ، وإن فاطمة (عليها السلام) قالت ذات يوم : إني أشتهي أن أسمع صوت مؤذِّن أبي (صلى الله عليه وآله) بالأذان ، فبلغ ذلك بلالاً ، فأخذ في الأذان ، فلمّا قال : اللـه أكبر اللـه أكبر ، ذكرت أباها وأيامه ، فلم تتمالك من البكاء ، فلما بلغ إلى قوله : اشهد أن محمداً رسول اللـه شهقت فاطمة (عليها السلام) وسقطت لوجهها وغشي عليها ، فقال الناس لبلال : أمسك يا بلال فقد فارقت أبنة رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) الدُّنيا ، وظنوا أنها قد ماتت ، فقطع أذانه ولم يتمه فأفاقت فاطمة (عليها السلام) وسألته أن يتمَّ الأذان ، فلم يفعل ، وقال لها : يا سيدة النسوان إنّي أخشى عليك ممّا تنزلينه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان ، فأعفته عن ذلك .
الصدِّيقة (عليها السلام)تلتحق بوالدها (صلى الله عليه وآله) :
كان النبي (صلى الله عليه وآله) يتقلب على فراش المنيّة ، وكانت فاطمة تجلس بجانبه فيسارُّها النبي فتبكي ، ثم يسارُّها ثانية فيتهلل وجهها الكريم . وحين تُسأل عن السر الأول تقول : إنه أسر إليها بأن جبرائيل كان يعرض عليه القرآن كل عام مرة واحدة . فعرض عليه هذا العام مرتين ، وما ذلك إلاّ لاقتراب أجله ..
أما السر الثاني فإنها ستكون أول من تلتحق به ..
وهكذا ، ظلت فاطمة تعزي نفسها رغم شدة الظروف المحيطة بها ، بأنها ستكون أول من يلتحق برسول اللـه (صلى الله عليه وآله).
أمـا الظروف التي عاشتها فاطمة (عليها السلام) بعد وفاة الرسول ، فكانت صعبة جدّاً ، لأنها وقفت وحدها تتحدى العواصف العاتية . وحتى الإمام علي بطل الإسلام الأول لم يكن من الحكمة أن يشاطرها الجهاد ، فكان عليها أن تتصدَّى لذلك وحدها ، وهي امرأة لما تبلغ العشرين ربيعاً .. ولكل تلك الظروف يكفينا أن نستمع إليها وهي مفجوعة تشكو إلى علي (عليه السلام) حالها بكلمات تتقطر ألماً وتحدياً : لما انصرفت فاطمة من عند أبي بكر أقبلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقالت له : ( يابن أبي طالب شملت شيمة الجنين ، وقعدت حجرة الظنين ، فنقضت قادمة الأجدل ، فخانك ريش الأعزل . أضرعت خدَّك يوم وضعت جدك ، افترست الذئاب وافترشت التراب ، ما كففت قائلا ، ولا أغنيت باطلاً هذا ابن أبي قحافة يبتزُّني نحيلة أبي ، وبليغة ابنيّ ، واللـه لقد أجهر في خصامي ، وألفيته ألدَّ في كلامــــي ، حتى منعتني القيلة نصرها والمهاجرة وصلها ، وغضّت الجماعة دوني طرفها ، فلا دافع ولا مانع ، خرجت كاظمة ، وعدت راغمة ، ولا خيار لي ، ليتني متُّ قبل هينتي ، ودون زلّتي ، عذيري اللـه منك عادياً ، ومنك حاميا ، ويلاي في كلِّ شارق ، ويلاي مات العمد ووهنت العضد ، وشكواي إلى أبي ، وعدواي إلى ربي . اللـهمَّ أنت أشدُّ قوَّة ، فأجابها أمير المؤمنين : لا ويل لك ، الويل لشانئك ، نهنهي عن وجدك يــا بُنية الصفوة ، وبقية النبوَّة ، فما ونيت عن ديني ، ولا أخطأت مقدوري ، فإن كنت تريدين البلغة ، فرزقك مضمون ، وكفيلك مأمون ، وما أعدَّ لك خير ممّا قطع فاحتسبي اللـه . فقالت حسبى اللـه ونعم الوكيل ) [1][5]. وحان ميعاد اللقاء ، واستعدت الصديقة للقاء اللـه والالتحاق برسول اللـه ، وكان لذلك قصة تروى فلقد مرضت فاطمة (عليها السلام) مرضاً شديداً ومكثت أربعين ليلة في مرضها ، إلى أن توفيت صلوات اللـه عليها . فلما نعيت إليها نفسها دعت أمَّ أيمن واسماء بنت عميس ووجّهت خلف عليّ وأحضرته ، فقالت : ابن عمِّ إنّه قد نعيت إليَّ نفسي وإنني لا ارى ما بي إلا أنني لاحقةٌ بأبي ساعة بعد ساعة وأنا أوصيك بأشياء في قلبي . ( قال لها علي (عليه السلام) : أوصيني بما أحببت يا بنت رسول اللـه ! فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت ثمَّ قالت : يابن عمِّ ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ، ولا خالفتك منذ عاشرتني . فقال (عليه السلام) : معاذ اللـه أنتِ أعلم باللـه ، وأبرُّ وأتقى وأكرم وأشدُّ خوفاً من اللـه [ من ] أن أوبّخك بمخالفتي قد عزَّ عليَّ مفارقتك وتفقدك ، إلاّ أنه امر لابدَّ منه ، واللـه جدّدت عليَّ مصيبة رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) ، وقد عظمت وفاتك وفقدك ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضها وأحزنها . هذه واللـه مصيبة لا عزاء لها ، ورزيّة لا خلف لها .
ثم بكيا جميعاً ساعة ، وأخذ عليٌّ رأسها وضمّه إلى صدره ثمَّ قال : أوصيني بما شئت ، فإنّك تجدينني فيها أمضي كما أمرتني به ، وأختار أمرك على أمري . ثمَّ قالـــت : جزاك اللـه عنّي خير الجزاء يابن عمِّ رسول اللـه ، أوصيك أوَّلاً أن تتزوّج بعدي بأبنة [ أختــــي ] أمامة ، فإنها تكون لولدي مثلي ، فإنَّ الرِّجال لابدَّ لهم من النساء . ثمَّ قالت : أوصيك يابن عمِّ أن تتخذ لي نعشاً ، فقد رأيت الملائكة صوّروا صورته ، فقال لها : صفيه لي فوصفته فاتّخذه لها . فأوَّل نعش عُمل على وجه الأرض ذاك .
ثمَّ قالت : أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني وأخذوا حقّي فإنّهم عدوَّي وعدوُّ رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) ، ولا تترك أن يصلّي عليَّ أحد منهم ، ولا من أتباعهم ، وادفنّي في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار ، ثمَّ توفّيت صلوات اللـه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها .
فصاح أهل المدينة صيحة واحدة واجتمعت نساء بني هاشم في دارها ، فصرخوا صرخة واحدة كادت المدينة أن تتزعزع من صراخهنَّ وهنَّ يقلن : يا سيدتاه !. يا بنت رسول اللـه !. وأقبل الناس مثل عُرف الفرس إلى عليٍّ (عليه السلام) ، وهو جالس والحسن والحسين (عليهما السلام) بين يديه يبكيان ، فبكى الناس لبكائهما . وخرجت أمُ كلثوم وعليها برقعة وتجرُّ ذيلها متجلّلة برداء عليها وقد علا نشيجها وهي تقول : يا أبتاه ، يا رسول اللـه ، الآن حقّاً فقدناك ، فقداً لا لقاء بعده أبداً .
واجتمع الناس فجلسوا وهم يضجون ، وينتظرون أن تخرج الجنازة فيصلون عليها ، وخرج أبو ذرّ وقال : انصرفوا فإنَّ ابنة رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) قد أخّر إخراجها في هذه العشية فقام الناس وانصرفوا .
فلمّا أن هدأت العيون ومضى شطر من الليل أخرجها عليٌّ والحسن والحسين (عليهما السلام) ، وعمّار والمقداد وعقيـــل والزبير وأبو ذرّ وسلمان وبريدة ونفر من بني هاشم وخواصهم ، صلّوا عليها ودفنوها في جوف الليــــل ، وسوَّى عليٌّ (عليه السلام) حواليها قبوراً مزوَّرة مقدار سبعة حتى لايعرف قبرها . وقال بعضهم من الخواصِّ : قبرها سُوِّي مع الأرض مستوياً فَمُسِحَ مسحاً سواء مع الأرض حتى لايُعرف موضعه [1][6] . ثم إن عليّاً (عليه السلام) حوّل وجهه إلى قبر رسول اللـه ثم قال : ( السلام عليك يا رسول اللـه عنّي ! . والسلام عليك عن أبنتك ، وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك ، والمختار اللـه لها سرعة اللّحاق بك . قَلَّ يا رسول اللـه عن صفيّتك صبري ، وعفا عن سيدة نساء العالميــــن تجلّدي ، إلاّ أنَّ فـي التأسّي لي بسنّتك في فرقتك ، موضع تعزٍّ ، فلقد وسّدتك في ملحــــودة قبرك ، وفاضت نفسك بين نحري وصدري .
بلى !. وفي كتاب اللـه لي أنعم القبول ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون . قد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرّهينة ، أخْلست الزَّهراء ، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول اللـه !. أمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهّد ، وهمٌّ لايبرح من قلبي ، أو يختار اللـه لي دارك التي أنت فيها مقيم ، كمد مقيِّح ، وهمٌّ مهيَّج ، سرعان ما فُرِّق بيننا . وإلى اللـه أشكو . وستنبئــــك ابنتُك بتضافر أُمَّتك على هضمها ، فأَحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلـــج بصدرها ، لم تجد إلى بثّه سبيلاً ، وستقول ويحكم اللـه وهو خير الحاكمين ) [1][7] .
وظلت فاطمة الزهراء شعلة الحب التي لاتخبو في صدور المؤمنين ، وراية الكفاح التي لاتسقط عن يد الرساليين ، وقبسة الخلق الرفيع ، وظُلامة الحق التي تصبغ صفحات الشفق بلون الدم الموتور ، والحق المغدور ، فتتحول نبضة ثورية في عروق فتيان المروة ، يتزودون بها عبر مسيرتهم الجهادية ضد المتسلطين والانتهازيين والقشريين ..
وما أحوج أمتنا اليوم إلى تجديد ذكرى فاطمة ، ليقتدي بها النساء ، بل الرجال أولاً ..
ولنصلي عليها . وعلى أبيها ، وعلى بعلها وبنيها ، كما صلّى اللـه عليها ، وملائكته . والمؤمنون ..
ولقد بلغ من التزامها بتطبيق الإسلام على نفسها تطبيقاً حرفيّاً ، ما روي من أنّـه لما نزلت الآية المباركة : { لاَ تَجْعَلُوا دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً } (النُّور/63)
صار اللازم على المسلمين أن يغيروا خطابهم مع الرسول ، من قولهم : يا محمد !! إلى قولهم يا رســـول اللـه . الكلمــة التي شاعت بعد نـــزول هذه الآيـــة باعتبار ذكـــر الرســـول في الآيـــة ، تعبيراً عن النبــي - محمد - .
وكان هذا الدستور مختصاً بالذين كانوا يستخفون باسم النبي ويدعونه باسمه المدعى به ، دون أي احترام . ولكنَّ فاطمة ، لما سمعت نزول هذه الآية ، غيّرت أيضاً طريقة خطابها مع النبي (صلى الله عليه وآله) فبينما كانت تقول لوالدها : يا أبتاه !! أضحت تناديه بقولها : يا رسول اللـه . فلما سمع النبي منها ذلك. تساءل عن وجه ذلك . فقالت : إطاعة لحكم اللـه. فقال النبي: إني أحبّ من فمك كلمة “ يا أبتاه “.
ــــــــــــــــــــ
([1]) بحار الأنوار : ج 43 ، ص 80 .
([2]) بحار الأنوار : ج 43 ، ص 55 .
([3]) بحار الأنوار : ج 43 ، ص 155 .
([4]) بحار الأنوار : ج 43 ، ص 175 - 177 .
([5]) بحار الأنوار : ج 43 ، ص 148 .
([6]) بحار الأنوار : ج 43 ، ص 191 - 193 .
([7]) بحار الأنوار : ج 43 ، ص 193 .
[b]
مواضيع مماثلة
» ولادة السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)
» بأي حق ظلمت الزهراء عليها السلام
» الزهراء (عليها السلام) في بيت الزوجيّة
» بأي حق ظلمت الزهراء عليها السلام
» الزهراء (عليها السلام) في بيت الزوجيّة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت نوفمبر 12, 2011 4:27 am من طرف يتيم فاطمة
» تِلكُم أمّ أبيها
الأربعاء أغسطس 10, 2011 9:28 pm من طرف يتيم فاطمة
» شذرات نبويّة.. على جبين فاطمة عليها السّلام
الأربعاء أغسطس 10, 2011 9:26 pm من طرف يتيم فاطمة
» يوم الوقت المعلوم
الإثنين يوليو 04, 2011 10:14 pm من طرف يتيم فاطمة
» اشراقات حسينية في الثورة المهدوية
الإثنين يوليو 04, 2011 10:09 pm من طرف يتيم فاطمة
» ملامح الدولة العالمية على يد الإمام المهدي عليه السلام
الإثنين يوليو 04, 2011 10:07 pm من طرف يتيم فاطمة
» أسماء وألقاب السيدة المعصومة
الإثنين يوليو 04, 2011 10:03 pm من طرف يتيم فاطمة
» علم السيدة المعصومة عليها السلام ومعرفتها
الإثنين يوليو 04, 2011 10:01 pm من طرف يتيم فاطمة
» ولادة السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام
الإثنين يوليو 04, 2011 9:58 pm من طرف يتيم فاطمة